صور من حياتي أرويها لكم:
ولدت عام ١٣٩٠هـ في أسرة بدوية حالها حال كل مجتمعها في ذلك الوقت ، ترحل خلف وميض البرق ومواقع القطر في أي مكان.
دينهم الإسلام الحنيف بالفطرة ، يتعلمون منه مايحل مشاكلهم، و مايعرفون به الحلال والحرام ، لايخوضون بالدين ، ولايبحثون عن جوابٍ لأمرٍ يحتمل وقوعه.
أخلاقهم كلها قيم ، ورجولة ، وشهامة ، وصدق ، وشجاعة ، وإباء ، وعزة نفس ، وجدية متناهية، ليس للهزل في حياتهم مكان، حتى مزاحهم وأفراحهم فيها جدية وحذر.
وسيلة إعلامهم الضيوف والمسافرون والزوار والعائدون من الأسواق.
أسئلتهم عما يهمهم ويمس حياتهم فقط.
وسيلتهم في الترحال والانتقال الإبل ، ورأس مالهم الغنم ، منها مأكلهم ومشربهم ومسكنهم، ومما يبيعونه منها ملبسهم وبعض إلتزاماتهم .
طبهم الكي ، والحجامة ، والفصد، وبعض الأدوية العشبية ممايعرفونه من نباتات أرضهم أو مما يجدونه في دكاكين العطارة .
مساكنهم بيوت الشَّعَر التي يصنعها النساء من شعر الماعز وأصواف الضأن ووبر الإبل ، بها يستظلون من حرارة القيض وعن وابل المطر ، وبها يلوذون عن زمهرير البرد ورياحه القارسة.
يكرمون الضيف مما يجدون ومما يتوفر لديهم، لايسرفون ولايراؤون، وضيوفهم يسترون التقصير وقلة ذات اليد.
تنقّلت مع أسرتي في كل مكان ينبت الكلأ والعشب ، فإذا ماتيسرت الأحوال عادت إلى ديارها مابين المدينة المنورة والحناكية .
شاهدت كل الظواهر الطبيعية على الطبيعة وعشت أفراحها ورعبها ، من ظلامٍ دامس ، ونجوم زاهرة ، وقمر منير ، وفجر بارد ، وصباح منعش ، وظهيرة تتوهج من حرها البيد، وسراب كأنه الغدران في المستوي من الأرض ، يعكس الأجسام ويضخمها ، ولفح سموم حارقة تشوي الوجوه ، أو لفح زمهرير قارس تتصدع منه الجلود ، وتتفطر منه الأيدي والأقدام ، ومناظر العشب الذي يكسو الطبيعة بألوان مختلفة ويبث أريجه مع نسائم تشفي العليل، وسنوات عجاف تكسو الأرض بالغبرة والقتام تترنح من شدتها الدواب هزالاً، وتملأ وجوه الناس حيرة وقلقاً من مستقبل مجهول العواقب ، مناظر البرق في النهار كأنه سيوف مصلته بأيدي كماة غطى صهوات خيلهم النقع ، أما في الليل فيخطف الأبصار ويملأ المكان خوفاً ورعبا، وهزيم الرعود تزلزل الأرض تحت الأقدام ، يجعل الناس يتحركون بكل اتجاه فهذا يتفقد ماشيته ويقرّبها ويقطّعها الأودية، لكي لاتحول السيول بينه وبين أهله فيضطر للمبيت مع أغنامه بالعراء تحت المطر وفي مواجهة البرد والجوع وفي مسارح السباع والذياب ، والنساء يتفقدن بيوتهن ويتأكدن من جودة أعمدتها وقوة أطنابها وتثبيت أوتادها ، حتى لاتقع عليهن وعلى أبنائهن في الليل إذا ماتبللت من الماء وثقل وزنها ، ويجمعن الحطب تحت البيوت لئلا يبلله المطر فتبيت أسرهن بلانار تدفئهم أويطبخون عليها طعامهم؛ بقدر الفرح بالخير مابعد المطر فإنهم يحملون هماً وتعباً من الاستعداد لاستقباله ، يجب أن تكون الجدية في كل شيء ولامجال للكسل والتراخي والظنون ، كل شيء يجب أن يكون على أحسن مايرام ، فالكل جاداً ؛ الرجل والمرأة والشاب والطفل كلهم يتمتعون بقدر عالي من المسؤولية.
تعلمت مباديء القراءة والكتابة عن طريق أخوتي الأكبر مني سناً والذين سبق وأن تعلموا القراءة والكتابة مثلي، فالكتاب الذي كنا ندرسه كتاب يسمى ( القاعدة البغدادية مع جزء عم ) لايوجد كتب سواه ولا يوجد دفاتر ولا أقلام ، و تعليم الكتابة يكون على الرمل، ليس هناك من يعلمك كيف تقرأ القرآن بطريقة صحيحة، ولا أحد يشرح لك المفردات الصعبة ولا الأرقام المطولة ولا الرموز الرياضية، وكانت عائلتنا على ضعف إمكاناتنا العلمية وقلة وسائل التعليم لدينا تقريباً الأفضل لأننا نقرأ ونكتب ونعتبر مضرب المثل للبوادي حولنا، ليس هناك مراحل تعليمية ولا متابع ولامشجع فمجرد أن تعلمت الحروف الهجائية وعرفت كتابة كلمات قليلة وعرفت كتابة الأرقام من ١إلى١٠٠ فأنت ستُتْرك أما أن تطوّر نفسك أو تنسى ماتعلمت.
مرحلة الطفولة كانت مرحلة محفوفة بحنان أم رحيمة حانية عطوف، لاتعرف للاهمال طريق، وليس للقسوة في قلبها مكان ،وأب عظيم حكيم جاد في كل شؤون حياته اللهم أغفر لهما وارحمهما كما ربياني صغيراً-ومتعهما بالصحة والعافية وبين أخوة يصنعون الفرح من العدم.
الطفولة سبع سنوات أو ست وبعدها يكلف الطفل برعاية البهم مع أخوته الصغار ليعرف كيف يتعامل مع الطبيعة الشاقة، والحياة الجادة، وتحمل المسؤولية، ومعرفة تجنب الأخطار التي تحيط به وببهمه من حرارة صيف وبرد شتاء وهطول أمطار وتحمّل الجوع والعطش، إنها معاناة لايدرك تعبها ونكدها إلا من جربها ومع ذلك لم نكن نشعر بحجم التعب وخطورة العمل الذي نكلف به؛ لبراءة قلوبنا وللفطرة التي وجدت في ذلك المجتمع الذي لايرى أسعد من لحظات يسمع بها ثناء والديه عليه عندما ينهي يومه بنجاح .
مرت السنوات بين رعي البهم وكبرنا - وكمايقول الشاعر : فياليت لم نكبر ولمً تكبر البهم - تدرجنا في الرعي حتى اصبحنا بمرتبة راعي، يتحمل كافة مسؤوليات الراعي، لايشتكي من مشاق الطقس ومقاساة عوامل المناخ، والمحافظة على الرعية بكل أمانة، فالحوادث المحيطة بالرعية تكاد تكون بالساعة وفي أي لحظة يغفل بها الراعي فقد تتعرض الرعية لضياع قطيع منها، أو تتعرض شاة منها للخطر؛ فقد تنشب وتعلق بأحد الأشجار الشوكية، أو الصخور فتموت، أو تتعرض الرعية لمهاجمة الذياب في لحظة غفلة غير مقصودة، وقد تتعرض في حين الأمطار للغرق في الأودية أو تنشب في وحل حين السير أو حين محاولة الشرب من الغدران، ويجب على الراعي أن لايغفل ولايغفو وأن يكون على قدر عالي من الأمانة والمسؤولية، وإذا ماكان الوقت عُصيراً عليه أن يتفقد غنمه ويخرجها من الوادي ويستعرضها ويعدها حتى يتأكد أن لاشاة مفقودة، وإذا حدث فقدان شيء منها عليه أن يتعرف على شكل ونوع الشاة المفقودة ليخبر بها والده إذا أمسى ، وعليه أن يتذكر متى آخر وقت شاهد تلك المفقودة ليسهل من الغد البحث عنها.
إنها بحق حياة مليئة بالتفاصيل المرهقة، والذكريات العصيبة، على فتى صغير يسرح مع كل طلوع شمس حتى يضوي عند غروبها، قد أنهك جسمه الجوع، يسحب قدميه الثقيلتين التي بلغ من مفاصلهما التعب مبلغاً لايعلمه إلا الله، يرمي عصاه ويلقي بقربة الماء التي عصرها العطش وطويت على قطرات قليلة من الماء لكي لاتجف وتتكسر، لايجد من يستقبله ويرد عليه السلام سوى أمه الرؤوم التي تخفف عنه بملاطفتها له تعب اليوم وعناه، وتغرف له طعام قليل يقال له (لطافة) يتناول منها لقيمات يسد بها رمقه، ثم يصلي المغرب ويقوم ببعض المهام من إرضاع البهم، وحلب بعض الغنم حتى العشاء، بعد ذلك يستريح ليشرب شيء من الشاهي ويتناول عشاءه وينام إذا لم يكن به ضيوف فيساعد والديه على تقديم واجب الضيافة.
ولكل فصل تعبه ولكل فصل معاناته.
بلغت الثامنة عشر من العمر فأدركت حجم التعب والعناء على قليل من الجدوى ونظرت بعيداً إلى مستقبل مجهول الله أعلم به فقررت أن أذهب إلى أخوتي في المدينة لأتوظف فانتقلت إلى مجتمع وأجواء وحياة جديدة لم آلفها ولكن الغريب أني لم أعاني من صدمة حضارية بالرغم من عدم إطلاعي السابق على الحياة في المدينة ولم تجذبني كل وسائل الترفيه والراحة التي يعيش بها أهل المدينة وكنت أظن أن حياتهم أفضل وثقافتهم أقوى وطموحهم أعلى ولكن كانت المفاجأة لي أن الحاضرة لم تكن بأفضل حالاً من البادية بكثير، فلم تثر إعجابي ولم أجد الطلاب في الثانوية أو الجامعة بأفضل مني إلا بالشهادة، فكنت أتوقع أن أجد الشباب في عمري أكثر ثقافة وعلماً وفهماً للحياة مني، ولم أجد من يستحق الاهتمام سوى خطباء الجمع وطلاب تحفيظ القرآن وجدتهم مميزون ويقرأون القرآن بطريقة جميلة وبتجويد لم آلفه وأحسست بفارق كبير بيني وبينهم ، وأنني لن أكن مثلهم يوما ما، لأن لساني تعود على النطق الخاطيء للغة العربية، كل ذلك لم يثني طموحي عن الحصول على عمل، لكن كانت الصدمة التي واجهتني طلب الشهادة الدراسية لأي طالب وظيفة، فقررت أن أحصل على مؤهل علمي يؤهلني للوظيفة، توجهت للمعهد المهني والتدريب الفني ولكنهم طلبوا شهادة، فقلت لهم أنا أقرأ وأكتب، فقبلوني بدورة كهرباء تمديدات ، فسجلت بها وكانت دورة مسائية من العصر إلى العشاء ، وسجلت بمدرسة إبتدائية ليلية من المغرب حتى بعد العشاء بساعة تقريباً، فداومت بالمعهد وإذا خرجت بعد صلاة العشاء خلعت ملابس التدريب وقطعت الشارع على قدمي للمدرسة فيقابلني المدير ويهددني بالفصل ويقول لم يبق من الوقت إلا حصة واحدة، لماذا تأتي متأخراً، فلم أخبره بأنني في دورة تدريبية خوفاً أن يفصلني لعدم تفرغي للدراسة فتضيع علي سنة دراسية، وبالنسبة للدراسة عندما تقدمت للدراسة قلت لمدير المدرسة: أنا أجيد القراءة والكتابة، ولدي إلمام كبير بكل المواد الدراسية، ماعدا قواعد اللغة العربية، فأدخلوني بصفٍ يناسب مستواي التعليمي، فقال : لايوجد نظام يجيز لي ذلك، فتوجهت لإدارة التعليم وقدمت لهم طلب أشرح فيه معاناتي، فشرح عليه مدير تعليم الكبار لمدير المدرسة بأن يختبروني ويدخلوني بالصف المناسب ، ذهبت لمدير المدرسة بخطابي وقال: الدراسة الليلية أربع سنوات وتقديراً لك نعديك سنة، فادرس ثالث ورابع والسنة التالية تدرس خامسة والسنة التي بعدها تدرس سادسة، فسلمني الكتب ، وكما ذكرت سابقاً كل يوم آتي متأخراً ، وفي يوم من الأيام قال لي المدير: أنت ماتفهم، تعال خذ ملفك. فأخبرته بظروفي وطلبت منه المساعدة، فالدورة المهنية تنتهي بعد ستة شهور ، فقال: أبشر وشجعني وقال: لو ماتجي إلا للاختبار، فقمت بفحص الكتب المسلمة لي ووجدتها بسيطة ولاتناسب تعليمي فقمت بحل كل الأسئلة بها وأكملت أي فراغ بها وسلمت كل كتاب مادة لمعلمه وقلت هذه كتبكم مابقى فيها شيء ماحليته، وكان ذلك بعد عشرة أيام تقريباً من الدراسة، فأخذني المعلمون للإدارة وقالوا للمدير: هذا الشاب يستحق أن نعطيه الإبتدائية الآن ، فقال المدير: أعطوه كتب ثاني متابعة وهي تعادل خامسة ليأخذ الإبتدائية في سنتين، ففرحت، وأكملت الدورة المهنية بتقدير جيد جداً وأخذت الابتدائية بتقدير ممتاز وتوظفت بها بالقطاع الحكومي ودرست أولى متوسط وثاني متوسط منتظم وأخذت الكفاءة انتساب وأكملت الثانوية منتظم وخدمت بالقطاع الحكومي كاتب إداري وميداني ونلت الكثير من الأوسمة وخطابات الشكر والتقدير وحصلت على عدة دورات إدارية وميدانية وحصلت على دورة الآلة الكاتبة العربية ودورة دبلوم الحاسب التطبيقي، فأصبحت محترف في تطبيقات الحاسب الآلي المكتبية، إلى حين طلبت الإحالة للتقاعد المبكر بعد خدمة دامت أربع وعشرين سنة وأنا الآن وبحمد الله أتمتع بالصحة والعافية وراحة البال ومتفرغ لنفسي وأسرتي ورعاية والديّ حفظهما الله ومتعهما الله بالصحة والعافية.
عبد العزيز شداد الحيسوني الحربي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق