عثمان الخويطر
تمرُّ بنا هذه الأيام مناسبة وعد بلفور المشؤوم، الذي بموجبه تعهدت الحكومة البريطانية الاستعمارية بكل وقاحة ولؤم بتسليم أرض فلسطين للصهيونية العالمية، وذلك حتى قبل أن تملك بريطانيا حق الانتداب على أرض فلسطين. وكان ذلك الحدث منذ أكثر من 90 عاما، وهو العمر الحقيقي للقضية الفلسطينية، وليس عام 1948 كما يتردد في الإعلام، وهي السنة التي اُشتهرت بعام النكبة، فالحكومة البريطانية تبرعت بكرم لزعماء الصهيونية، فتكون قد أعطت ما لا تملك لمن لا يستحق، بل ربما كانت نتيجة شهوة سياسية من وزير خارجية بريطانيا آنذاك آرثر جيمس بلفور. وهي الآن تتحمل تبعات ما قامت به وما لحق بالشعب الفلسطيني جراء الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على حقوقهم. ومن الغريب ألا أحد من الجانب العربي ولا الجانب الفلسطيني بالذات يرفع ضد بريطانيا قضية تعويض للفلسطينيين مقابل كل ما فقدوه نتيجة وعد بلفور وتدبير أمر الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين، وذلك عن طريق تسهيل الهجرة اليهودية وتهريب السلاح للعصابات الصهيونية أثناء عهد الانتداب البريطاني على فلسطين. ولا نعتقد أن مرور الوقت، مهما طال، من الممكن أن يُبطل الحق الفلسطيني في المطالبة أمام المحاكم الدولية بتعويضات مادية مناسبة. ومنذ اعتداء 1948 والشعب الفلسطيني يناضل من أجل استرداد ولو جزء من أرضه المسلوبة، لكن دون جدوى، بسبب التعنت اليهودي المؤيَّد من السياسات الغربية المُنحازة، وعلى رأسها بريطانيا العجوز. فقد تعددت اللقاءات والمفاوضات عبر السنين بين مُمثلي الشعب الفلسطيني وزعماء الدولة الإسرائيلية بأشكال مختلفة، لكن دون أي نتيجة إيجابية لمصلحة الفلسطينيين. وكان آخر محاولات التفاوض ما تناقلته وسائل الإعلام منذ فترة قصيرة، التي لم تبدأ بسبب الزحف الاستيطاني لليهود.
لكن هل نضع الملامة في عدم إحراز أي تقدم يُذكر في المفاوضات خلال عقود مضت فقط على الجانب الصهيوني، وهو من دون شك يتحمل الجزء الأكبر منها؟ الجواب بالنفي، فالجانب الفلسطيني ـــ في نظرنا ـــ يتحمل قسطا وافرا من مسؤولية عدم الوصول إلى حلحلة هذه القضية الشائكة، ولا أمل هناك خلال الزمن المنظور إلا أن يكون الفلسطينيون على مستوى ما يتطلبه الوضع الحالي من وحدة وطنية واستعداد للتضحية من أجل الحصول على الحرية والاستقلال والتخلص من براثن كابوس الصهيونية العالمية. فقد ظل الشعب الفلسطيني منذ بدء الاحتلال يرزح تحت وطأة الاختلافات المحلية وانقسام الرأي وتعدد الزعامات التي لا يهمها غير مصالحها الفردية. حتى إنك لتجد معظم رؤساء ما يُسمى الفصائل يعيشون منذ أمد بعيد خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة، في بعض عواصم الدول العربية، وكل ما يستطيعون فعله هو إطلاق بعض التصريحات الجوفاء والوعيد عن بُعْد. ولا بأس من شن أشرس الهجمات المسلحة فيما بينهم، حتى ولو استدعى ذلك استخدام أكثر أنواع السلاح فتكا، وهو ما يسُرُّ عدوهم الحقيقي ويُرسِّخ أقدامه ووجوده في أرضهم.
ومما يدعو إلى السخرية أن تتحول القضية الفلسطينية العريقة إلى تمثيلية هزلية ومساومة على تجميد مؤقت لبناء المستوطنات غير الشرعية لمدد لا تتجاوز بضعة أشهر كشرط لاستئناف المحادثات بين الأطراف المعنية، وهي محكوم عليها بالفشل قبل أن تبدأ. والجانب الصهيوني يُحاور ويُراوغ من أجل أن يكسب تنازلات جوهرية من الطرف الفلسطيني مقابل فقط توقيف مؤقت للبناء في المستوطنات! والسلطة الفلسطينية "المتهالكة" تستجدي وتستعطف نتنياهو وزمرته أن يمُنوا عليهم بوقف البناء ولو لفترة وجيزة، من باب حفظ ماء الوجه. لكن هيهات لليهود أن يتزحزحوا عن مواقفهم المتشددة والتعسفية قيد أنملة؛ لأنهم يعلمون علم اليقين أن السلطة الفلسطينية ليس لديها ما تُساوم به وأنها معزولة تماما عن شعبها ولا تملك أكثر من التصريحات الخالية من أي معنى، مثل تلك التي كانت تُرددها منذ عشرات السنين، وهي دولة فلسطينية مستقلة على حدود 4 حزيران عام 1967 وعاصمتها القدس الشريف. وقد ذهبت القدس واحتُلت معظم الأراضي وإخواننا يتصارعون فيما بينهم وأصبحت الفصائل دويلات تحت مظلة ما تبقى من السلطة. ولما وجدت السلطة الفلسطينية نفسها خارج اللعبة وألا مجال للحصول على أي تنازلات من إسرائيل لبدء المحادثات، جمعت قواها الخاوية وهددت بتكوين حكومة فلسطينية وهمية لا تعدو كونها تعبيرا عن الإفلاس والإحباط الذي أصابهم. وإلا لكانوا قد أعلنوا قيام دولة فلسطينية مؤقتة منذ عقود مضت، أيام العز عندما كانت المقاومة في قمة ازدهارها والهيبة من قوة الشعب الفلسطيني عند أعلى مستوياتها. أما اليوم، مع شديد الأسف، فقد أصبحت كل القرارات المصيرية فيما يتعلق بالقضية في يد المتطرفين من بني إسرائيل. وعلى الرغم من إدراك رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، أن الحكومة الفلسطينية المؤقتة التي تُهدد السلطة الفلسطينية بإقامتها ليس له أي معنى لا على الصعيد المحلي ولا الدولي، إلا أنه، من باب التهكم، يهدد باتخاذ إجراءات لم يذكرها ضد إظهارها إلى أرض الواقع.
وإذا كان هناك من بصيص أمل في المستقبل المنظور لتخليص الأراضي الفلسطينية المحتلة من دنس الصهيونية العالمية، فسيأتي من داخل إسرائيل نفسها؛ إذ لا نتوقع أن يتخلص الشعب الفلسطيني من عقدة الانقسام السائدة بين أفراده منذ زمن طويل ويهب بعزيمة رجل واحد خلال العقود القادمة. وهذا ليس من باب التشاؤم، لكنه واقع الحال الواضح للعيان. أما الذي من المحتمل أن يُخلخل المجتمع الإسرائيلي ويُضعف قوته ويُفقده الثقة ويحد من جبروته فهي الخلافات الداخلية العميقة التي ستحدث مستقبلا بين الطوائف اليهودية الأصولية المُتدينة من جهة، والأحزاب العلمانية من جهة أخرى خلال السنوات القليلة القادمة. فإذا استولت الطوائف المتدينة على الحكم وأحكمت سيطرتها على زمام الأمور، وهو ما بات قريبا، فسينفر منها العالم وتصبح إسرائيل كيانا مرفوضا ومعزولا عالميَّا. فاليهود المتدينون لهم عاداتهم وطقوسهم الخاصة بهم ويُفضلون الانعزال عن بقية البشر على أساس أن جنسهم هو الأفضل، كما عاشوا مئات السنين مُنزوين في حاراتهم، عندها سيفقدون العطف الذي كسبوه ثم استغلوه أسوأ استغلال وابتزوا بواسطته أموالا لا يستحقونها. وعلى الرغم من التأييد المطلق الذي تُكنه لهم الحكومات المتعاقبة في الولايات المتحدة منذ أن ظهرت إسرائيل على الوجود، والإغداق المفرط عليها بالهبات والمساعدات المالية والتقنية، إلا أن المتطرفين (دينيا) من الشعب الإسرائيلي لا يتورعون من إظهار الحنق والحقد ضد السياسات المعتدلة التي تمارسها أحيانا الولايات المتحدة على استحياء، وإن كانت في كثير من الأحيان غير جادة