مرحبا بالزائر الكريم

أحب الصالحين ولست منهم ، لعلي أن أنال بهم شفـــاعة
وأكره من تجارته المعاصي ، ولو كنا سواء في البضاعة

أبحث في قوقل

18‏/08‏/2025

الإنسان و الجدران : مشاهدات من الواقع

 الإنسان و الجدران : مشاهدات من الواقع


مع إشراقة يوم الخميس ١٣ صفر ١٤٤٧هـ وعلى غير المعتاد حملتني قدَمَاي إلى سيارتي، وخرجت بي إلى جهة غير معلومة، وسلكت بي الطرق متجهة داخل المدينة ثم انعطفت فجأة لتسلك طريقاً يخرج من المدينة، وتختار أحد الطرق الضيقة المزدحمة بالشاحنات، ويخترق الأودية والجبال ومصانع الخرسانات؛ التي غَلَّفت الجو بغبار خانق للنَّفَس وللرؤية، وحجبت إشراقة الشمس، وعكرت مزاج الصباح، وبينما كنت أسير بحذر شديد بين فوضى الشاحنات، وتحت قبة من الغبار، وعناد أشعة الشمس؛ التي تحاول اختراق الحجب الغبارية ، إذ لاحت معالم قرية على يمين الطريق اتضحت من خلال كثرة الخزانات فوق سطوح المنازل الشعبية القابعة بين الجبال، فناداني الفضول إلى الدخول لهذه القرية للتجول بها، فتحيّنت فرصة آمنة للإنعطاف يميناً والخروج عن الطريق وتركه للشاحنات العابرة، فدخلْت للقرية مع طريق ترابي و غير ترابي أحيانا، واستقبلتني ببداية الطريق بعض المحلات التجارية المغلقة منذ زمن، والتي لايدل على إنها محلات تجارية إلا أبوابها وبقية اللافتات التي بدأ على ملامحها الكساد وتجاعيد عوامل التعرية، ثم تظهر بعدها بمسافة قليلة محلات تجارية بسيطة تدب فيها الحياة وتخدم سكان القرية يجلس على نواصيها بعض العمال لقلة المرتادين.

استمريت بالسير داخل القرية سالكاً طرقها الترابية الضيقة المليئة بالغبار والحفر والمنعطفات الحادة، وكانت تلك الحفر والمنعطفات أهم مايجعل الطريق آمناً وأقل ضرراً على السكان، إذ تتحرك به السيارات ببطء شديد مما يجنب السكان خطر الدهس والاصطدام وإثارة المزيد من الغبار.

البيوت منخفضةجدرانها، متواضعة ألوانها، نهش الصدأ أبوابها، ولعبت الرياح بفواصلها وأعتابها.

المساجد كثيرة وصغيرة، أقيمت بعض مآذنها من قضبان أو مواسير الحديد، التي بالكاد تحمل مكبرات الصوت، وهناك في مقدمة مدخل القرئة تظهر للداخل مئذنة جميلة وعالية ويبدو أنها مئذنة مسجد جامع.


السيارات الواقفة أمام المنازل أغلبها مهترئة تتحدث عن حالة من البؤس والإهمال.

- حركة السكان ضعيفة ولعل ذلك بسبب أن الوقت كان مبكراً، ويوافق الإجازة الدراسية، وحركة قليلة لمركبات متهالكة في الطرقات وحول المحلات.

-المساجد والشوارع والبيوت تتحدث للسالكين من خلال أشكالها وأبوابها والعبارات التي كتبت عليها.

🔹المساجد تتحدث عن الدين والطمأنينة.

 🔹أماالبيوت فتتحدث عن الأمن المستتب، والقناعة، والكرم، من خلال الأبواب المفتوحة، ومداخن المشبات، وبساطة البنيان.

🔹القرية تنطق بالثقافة النقية والحب والتفأول والوفاء والحنين والرحيل والهجرة، وكذلك الضجر، وذلك من خلال الكتابات على الجدران ومسميات المحلات التجارية.

كثير من البيوت كُتب عليها للبيع، ولعل ذلك بسبب تحسن أحوال أصحابها وهجرتهم إلى مكان أفضل أو لرحيلهم من الدنيا،حيث أنني أضع الطريق المؤدي لتلك القرية في دائرة الإتهام ولا أبرئه من ابتلاع كثير من الأبرياء من سكان هذه القرية؛ لضيقه، وكثرة شاحناته، واستمرار غباره، وفوضى مصانعه.

أما ماكتب على بعض المنازل من عبارات تنم عن عواطف جياشة وحنين وحالات انفعالية أخرى، اختار منها:

-الحب عذاب والقلب كذاب.

- لاصار زولك بأول العيد موجود.

- أقولها من قلب والصوت مبحوح، (بيت اللي عطيناهم قلوبنا).

- لكل حكاية نهاية.

وكثير من العبارات الشاعرية، والرسوم المعبرة الشاخصة، وعبارات الضجر الساخطة.

أحسست وأنا أتجول في القرية أن الجدران كائن حي يبوح له الإنسان بعواطفة ومتنفَّس له لتفريغ الإنفعالات الوجدانية، خصوصاً لمن يعيش في مثل هذه القرية التي لا يتقبل العيش بها إلا من قيدته الحاجة بأغلالها، وطحنته الحياة بأضراسها.

تشاهد في هذه القرية بعض الأشجار داخل البيوت وبعض المزارع الصغيرة، وبعض العبارات الجميلة على الجدران فتشعر بالراحة النفسية وتقول: الحمد لله ما زال هنا من يعشق الحياة، وينشر التفاؤل، و يبث الأمل، و يمحو بصمات البؤس.

كانت و مازالت الكتابات على الجدران مصدر قلق لي وتشوه بصري لايطاق، حتى رأيت اليوم ما رأيت، فتمنيت أن تتغاضى الجهات المختصة عن إزالة هذه الكتابات فهي أرواح تنطق وقلوب تنبض، وإزالتها اغتيال لها.

تسألني نفسي وأنا أتجول بصمت، كم خلف هذه الجدران من حاجة؟ وكم خلفها من قلوب مكسورة؟ وآمال مطمورة؟ و أعين بصيرة و أيد قصيرة؟

علماً بأنني لست ممن يشبع فضوله بتحريك جراح المكلومين ليستمتع بشكواهم دونما يكون لديه الضماد والدواء، وما تمنيت أن يخرج لي أحد لأسأله عن ما يستتر خلف عباءة التعفف وعزة النفس، والحال يغني عن المقال، كما يقول المثل الشعبي : من شفت حاله لاتساله. 

والفقر ذئب ليا رثع بالضعوفي

      مثل العقور اللي على الناس مفلوت

في قاعٍ أجرَد والهرب والوقوفي

         متساويات وحيلة العاجز الصوت

ومهما نوَصِّف يقصرن الوصوفي

       عن المرض والدَّين والفقر والموت

وسؤال المتعفيين عن حالهم دون تقديم العون لهم ومساعدتهم إيذاء لهم، فالمتعفف:

إنسانُ لم يشتكِ للناسِ بلواهُ

                الضيقُ يدفعهُ و الصبرُ ينهاهُ

لا تسألوه فإن الهمَّ أقلقهُ

                 و الفقر مزقه و القهر أضناهُ

والدَّيْن أرهقه و الكد أحرقه

                والحزن أغرقه و الحل أعياه

تأبى مروءته أن يرتجي أحداً

             أو أن يبث إلى مخلوق شكواهُ

يكفكف الدمع عن خديه مستتراً

              و يستحي أن يراهُ غير مولاهُ

ما شاهدته وشعرت به وأنا أتجول في هذه القرية لم ينقل قلمي ولساني منه إلا عناوين عريضة تطول تفاصيلها.

ولولا احترامي للإنسان والمكان لأخذت لكم لقطات مصورة من الشوارع والجدران والكتابات والمحلات واللافتات.

وأختم الكلام بالعبارة الجدارية في القرية : ( لكل حكاية نهاية ).

وإنني أشكر شركة الكهرباء وشركات الإتصالات فخدماتهم تضخ الحياة بأوردة هذه القرية المنهكة ، والشكر موصول لكل جهة تقدم خدماتها وتسهيلاتها لهذه القرية وساكنيها.

بقلم / عبد العزيز بن شداد الحيسوني الحربي 

ليست هناك تعليقات: